الثلاثاء، 27 نوفمبر 2018

أوراق سفر...مغنيو ريغا

براح بارد، و وجوه باردة، يتولد عندك إنطباع ، أن سكانها منغلقون ، لا يثقون في الغريب، و قد جربوا لمرة، إعطاء الثقة في القنوات المحاطة بالمدينة لحمايتهم ، إلا املهم خاب، بعد أن اصاب الروس منهم مكمن ، صار عذرهم يمكن أن يُقبل و يُفهم بعد أن دُنِست ريغا عاصمتهم .ولكن وراء هذا البرود هناك دفء ، و هناك حميمية. كل ما يحتاجه المرء أن يُرغم العواطف على النزول إليه أو أن يهم هو إليها بالصعود، ليجد طيوف من الألوان قد لونت المحيا سطعت مكان الشمس الغائبة، يقال هي تلوذ بأحد الغيوم...تتدفء.

في باريس الشمال لمحات من زخارف معمارية خيالية. تم بناء نصف مباني هذه المدينة الساحلية على طراز فن الآرت نوفو، هنا لا تستطيع أن تفصل ريغا عن لاتفيا ، ولا يمكن أن تفصل لاتفيا، عن مسابقات الغناء الجماعية في جوقات.جل السكان صغار كبار، يافعين و كهول، رجالاً و نساء ، بعد ساعات الدوام في المساءات ، ينطلقون إلى القاعات ، حيث يغنون، يوقدون الكلمات في لهيب النغمات ، تشتعل المشاعر بلظى العواطف ، ينصهر الجليد ، و يذوب، تجري انهار الحماواة ، تنطلق الحناجر بالتراتيل، تسلك السماء، سبيل، بصلاة الحب، ترقص الغيوم و تتباعد ... أخيرا تسعر الشمس، تنهض، تتاؤب، و تبزغ .

المنازل الخشبية عنوان الهوية، أهملت من الشيوعية ما يقارب نصف قرن، أو خمسة عقود ، فهي شيء من البرجوازية ، العدو اللدود للثورة البلشفية المستنهضة بسواعد الطبقات العمالية، الذين يستحقون العيش فيها، تقسم بينهم، تتحول الغرف إلى شقق ، و الحمامات مشاركة بينهم، و المعيشة تضامنية. يبهت فيها السطوع، لا تولع الشموع، يبكي فيها الخشب بدموع المطر، حزنا عليها، و حزنا على أهلها، أما ماتوا، و اما غادروا، و إما نفوا إلى سهوب سيبيريا، ومن بقى منهم على قيد الحياة، إليها عادوا يمدونها بالحياة، فترجع زاهية بهية بعد المعاناة.

كما أن للبيوت اسرار، فإن البحار في ريغا أيضاً اسرار، لن تعرف أن كان قدرك، أما أنت كنت له الاقدار، إما إن تهديه نفسك، أو يهديك شيء من الحظ مخبى في حجر كهرمان.هذه هي مختصر العلاقة بينك وبين بحر البلطيق و شواطئها الرملية اين قضى بريجنيف وخروشوف عطلتهم الصيفية. خرافتها مع البحر تقول كن أربعة شقيقات، لاتفيا، لتوانيا، استونيا و بروسيا الشرقية، الثلاثة الاولى اشتعلت فيهم نار الغيرة، لأن البحر عشق الأخيرة بروسيا ، و تعاظم جنونه بها ، فأهدى لها كل ما في مكنونه من حجر القمر، تزينت به نسائها فصرن الاجمل. ارسلت لتوانيا غيومها كي تححب القمر، و اغرت استونيا رعدها حتى ُيخيف البحر، و ضاجعت لاتفيا نهرها داوجفا يعكر ازرقه. تحول إلى وحش و اختفت بروسيا، منهم من يقول أنها هربت ، وهناك من يقول انها مع يم أخر اقترنت، ولكن الحقيقة هي أن روسيا اغرت الشقيقات الثلاثة فاستسلمن لها ضمتهم و ابتلعت بروسيا. إلى يومنا هذا لا وجود لبروسيا، ولا لنسائها.

نساء باريس الشمال ليست كنساء موسكو يتبهرجن بالذهب و الفضة، هن يكتفين فقط بالبهاء، حتى و انهن بدينات، ذوات شهية مفتوحة لفطائر البطاطس، و حساء الشمندر، وكيف لا ولديهن أكبر سوق في أوروبا. لسن مثيرات كالروسيات. جديات يتمتعن بمهارة كبيرة في فن استنشاق الهراء، من حاول التودد إلى احدهن وقال لها أنتٍ جدًا جميلة ، ستعرف في الحال بأنه أجنبي عن الديار يتهم بالغباء، و مع هذا فالنساء براغماتيات و فخورات للغاية، لا يحتاجن لسؤال من اين انت قدمت؟، أصواتهن كهدير الموج، ليس كموسيقى هادئة، أن ناقشتهن في النسوية، فأن اللاتفية تضع ورائها كل ارائها، و تقدم أمامها فقط سيمون دي بوفوار، متعلمات مثقفات اعدادهن اكثر من الرجال ، و يفوقهن اعماراً في الحياة، لهذا هن يخسرن غالباً الحب، ومع هذا قد يحتاجن لرجل لا زال يحتفظ بثقافة مشهورة تشجع السلوكيات المحفوفة بالمخاطر ، مثل القيادة السريعة والتدخين وخاصة شرب الخمر ... وربما لا.

كثير منهم يرتدون الجينز، و قليل منا يعرفون لولا ريغا لما كان هناك هذا الازرق السميك، فلقد وُلد الخياط خاكوب دبليو ديفيس فيها، هاجر العام 1854من ضواحيها إلى الولايات المتحدة عندما كان شابًا، سألته أحد العميلات العام 1870ليصنع زوجًا من السراويل القوية لزوجها الحطاب، بعد هذا التاريخ بعامين، وبمساعدة من ليفي شتراوس ، يحصل على براءة اختراع المنتج.

الكل ربما يغادر مع قضائه، ما عدا طائر بالتا... لا، هو باقي طالما كانت هذه الارض ببحيراتها المائية تنتمى إلى سماه و فضاءه ، وهو لها شعار على العمل و الجدية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق