الجمعة، 28 أغسطس 2015

لم يعد يهمني



انها قصة شخصية وعائلية تحكي عن الصعوبة التي واجهت الكاتب وأياهم " العائلة" في تخطي الحدود الثقافية. جميعهم ولدوا لمهاجر الماني وأم ليبية عانى كاتبها وعانت عائلته باكرا "بوصفهم نتاج تلاقح ثقافتين" محنة العنصرية وصراع الثقافات ليقرر هو أولا، وهم لاحقا في لحظة ما " تجاهل " أصلهم الألماني على الورق، والذي شكل بالنسبة له ولهم "لعنة يجب التخلص منها." ببساطة أرادوا أن يكونوا " كالجميع "غير أن هذا المزيج نفسه بما حمله من معاناة وتأملات وتطلعات شكلت دوما للكاتب مصدر رئيسي أغترف منه، لجاء اليه، تميز به. محاولاً أن يعرض مجموعة من الصور المخزنة في صندوق ذكرياته ،يلصقها الي بعضها البعض كلعبة البزل ، راويا ربما كي ينتقم .الأمر لا يخلو من الصعوبة ، فالصور كثيرة ، وايهم جديرة بالمشهد يحتاج الي جهد وعناء وقدرة على الحقيقة...ويبقى الهدف الأساسي لسرد هذه الحكاية هو توضيح الأحاسيس الموجودة فينا والتي لا تبدو انها عدوى تنتقل بالتعلم بل هي تكاد تكون مولودة معنا نحن كل البشر أينما ولد الإنسان في كل أنحاء الكرة الأرضية تجعل من الاختلاف في المفاهيم السياسية والثقافية والعادات والتقاليد والدين والعائلة لتصل حتى طقوس تناول الطعام...لا معنى لها. فالفرحة بعناق جسد آخر والسخط تجاه الظلم الأذى المتأتي من التعصب الديني، محبة الأبناء، الفرح الغامر بالصداقة، الاندفاع نحو المسامحة أو الانتقام، الألم والذهول في حضرة الموت...هي أحاسيس تجمع بيننا نحن كلنا بني البشر.   سأبدأ...محاولا الاستمرار، لزمن لا املك بشأنه قرار...
1
أسمي فريد يحي، يحي بشير، الفريد يحي...مسميات عديدة، غريبة... ربما، ولأن المساحات الفارغة في حياتي لم تمتلئ بعد، فكلمة ربما هي كلمتي المفضلة والتي سيعاد تكرارها الكثير من المرات خلال سطور هذه المذكرات... ربما المسميات لا معنى لها !!!!وربما لها معنى. ليبي المولد والنشأة...تقريبا. غالباً ما أعتبر نوعا فريد (لا أظن انها الكلمة المناسبة. غريب من الليبيين. نتاج نسل جديد، حصيلة تلاقح تاريخين قديمين. جذور، لا جذور، تيه مصطلحات لا أهمية لها. ليبي أنا...سواء كنت فخورا أو لا...هذا أخر همي. من مدينة طرابلس أنا، وأتجه الي مكان ما. لعله ذلك الخليط الغريب من القارات والأعراق والأمكنة، من الانتماء واللا انتماء، هو ما يصيبني بالقلق والملل والذي اٌصدره الي كل من حولي حتى درجة الإزعاج. في أغلب المرات التي افصح فيها عن لقب عائلتي " دولتي" تسألني الأغلبية اذا ما كنت من أصول ليست ليبية ،وهو ما كنت انكره أحيانا ولا أنكره أحيانا أخرى ، على حسب الشخص السائل،وعلى مدى أهمية الجواب اعتمادا على تقديري الخاص فقط لقول الحقيقة،أعرف أن أسلافي من أبي هم أصول جرمانية اقطاعية شعارها " الحمل " استوطنت الجزء الشرقي من المانيا المسمى بروسيا الشرقية بمدينة كوينغسبيرغ بلدة حجر الكهرمان، المطلة على بحر البلطيق وهي ما يطلق عليها الأن " كالين غراد" ولا غرابة في هذا الاسم الروسي فالمدينة أصر الروس على عدم التفريط فيها فهي عاصمة الوحدة الألمانية زمن بسمارك و"الملك فيلهلم الأول" اللذان عملا على انبعاث القومية الألمانية .ولكن لماذا يجب علي البحث بعمق في الأمر. يكفي القول بأنني كنت أسعى وراء أي نوع من الحركة والإثارة، وحب الظهور، والمغامرات العاطفية. لإن حياتنا العائلية كانت لسبب أجهله بالغة البطء والثقل الي حد الإحباط. ليتغير ذات يوم كل شيء. كانت الأمور مستقرة في الصباح على حال، وانحرف في اتجاه آخر ظهرا. لقد بلغت السابعة عشرة في ذلك اليوم بينما كنت واقفاً في موقف الحافلات أمام مدرستي الثانوية، وإذ بسيارة تويوتا زرقاء تقف أمامي بها رجال لم أهتم بأوصافهم طالما كان وجه أبي ملاء الصورة أمام عيناي بابتسامة يبذل جهدا كبيرا في أن تكون طبيعية غير مصطنعة، وهو يدعوني الي الركوب في السيارة لأكون في لحظات جالساً في المقعد الخلفي متوسطا ما بين إثنين. التفت أبي إلي قائلاً – الأن جدك يخضع الي عملية القلب المفتوح...وصمت. عيونهُ بدأت بالتحدث، وأنا أتأملها مستمعا، كما لم استمع اليها طيلة حياتي من قبل، والتي لازالت أحملها في ذاكرتي الي يومي هذا، ولأجل حب هذه الذكرى فأني كما قال " يهوذا عميحاي " (صرت من ذاك اليوم أحمل فوق وجهي وجه أبي). بينما السيارة تسير ببطء الي منزلنا لم احتاج الي كثير من النباهة لأعرف بأن هؤلاء الرجال هم من الأمن الخارجي. وأن أبي قد حكى لي قبل يومين، وعند استيقاظه من النوم في الصباح، وبمجرد أن فتح عيناه صادف وجود هدهد واقفا على زاوية الحائط الملاصق لسرير أبي. فقد تعود أن ينام في حديقة المنزل طيلة أشهر الصيف. ولأنه يؤمن شديد الإيمان بالغيبيات، فلقد كان مقتنعا اقتناعا تاما بأن الهدهد جاء ليخبره بخبر، فهذا الطير كان هو من أخبر النبي سليمان بقصة بلقيس. وأمام تهكمي الساخر بقناعته، وابتسامته الرشيقة انتهت الحكاية، لأتذكرها الأن وأنا بين جليساي...يتبع




2

هذه المرة ربما الأولى والتي لم أشاهد فيها أبي يدخل من الباب ليخلع حذائه، يسلم على الجميع، يقبل أختي الصغيرة ابنته المدللة، يُحي أمي، ويسأل عن أحوال المولودة الجديدة ذات الأربعة أشهر وهو متوجه الي حجرة نومه يتعرى بسرعة، مرتديا ما خف وزنه، في الوقت الذي تقوم فيه أمي وبطريقة اعتيادية بتسخين غذائه المتأخر نظرا لخروجه الساعة الخامسة من السفارة الأمريكية مكان عمله. يتناول هذا الغذاء المتأخر بشراهة بالغة كما هي العادة دائما، وبرغم هذا لم يكن سمينا، ولم يكن ضئيل الجسم، بل أنيقا ووسيما ورقيقا. حرص دائماً على تعليق أداة رياضية في الحمام تعمل على فتح الصدر، لم أراه يلعب بها الا مرة أو مرتين على الأغلب، وبطريقة مضحكة نتيجة حركات غير متناسقة، وزفير يشبه زفير ثور متلبك بقيد مع تقلص لعضلات وجه انتفخت أوداجه بكمية دم مندفع صبغت بياض بشرته بحمرة قاتمة. الا أن افتخاره بصدره هذا لم يكن ليقل عن افتخار جيراننا بسعة مطبخهم. أخبرني ذات مرة بأنه أمضى ردحاً من شبابه يلعب الملاكمة...والحقيقة لم أصدقه .كان طيلة أشهر الصيف ينزع قميصه ويفشخ بخطوات مرحة واسعة الي الحديقة حاملا كرسي البحر القابل للطي وعددا من مجلة نيوزويك ،فورين بوليسي ،أو ناشيونال جيوغرافيك ، بعد أن يكون قد أطفى اللهيب المنبعث منه كديناصور بدش بارد حرص على عدم تجفيف الماء من على جسده لينهمر كقطرات المطر مخلفة سيول على الأرض ورائه عانت أمي كثيرا في العدو خلفه وتجفيفها وسط سخط عارم لأنها عجزت عن تجفيف المصدر،ولم يفلح رجائها المتكرر لشراء مكيف هواء نظرا لان ابي مقتنع بتعذيب النفس حتى يشتد عودها وتفرح بالنذر القليل من السعادة إضافة الي التقتير الممنهج تحت عنوان القرش الأبيض لليوم الأسود. بمنشفة ملفوفة أسفل بطنه المتكومة هبوطا تجول هو في كل أرجاء البيت الي أن يتبخر الماء الذي لم ينزل على شكل قطرات ، حتى انه قام بالعديد من الواجبات المنزلية على هذا الطراز،والذي كان أحيانا يسبب بعض الاحراج لما اعتلى يوماً كرسي لتغير المصباح وكنا نحن أطفال العائلة مجتمعين حوله ممسكين بالكرسي كي لا يقع لتنزلق المنشفة فجأة وبدون سابق انذار فتنفرج يدي أبي أحدهما تمسك المصباح،أما الأخرى فتحاول مسك المنشفة...ولكن بدون جدوى فهي ساقطة بلا محالة بارزة قضيبه وخصيتاه للعيان فتتداخل أمامنا العديد من الصور السريعة يزداد غبشها بازدياد الربكة نتيجة صراخه واوامره بالتفرق متخذا كلُ منا طريقه للانسحاب بدون خطة منظمة حتى ان أخي اصطدم بي ومن ثم اصطدم بالباب ويكون أثر جرحه الي اليوم علامة على الانسحاب الفوضوي ، عندها لا تملك أمي الا أن تخاطب أبي " ياربي،يا بشيركم من مرة قلت لك لا تترك بضاعتك مكشوفة هكذا بحيث يمكن أن يراها الجميع فأنت ان لم تستحي من صغارك فاستحي على الأقل من الجيران...فنحن لسنا في المانيا...يكتفي هو بالصمت ويختفي رفقة ابتسامة الأشقياء. أنا لم أخبر أبي يحب شيء أكثر من حبه للطعام أولاً، وللقراءة ثانياً، والنساء ثالثاً. حتى انه قال لي يوما لم أعرف يأبني لحظة واحدة في حياتي شعرت فيها بالشبع...دائما جائع. ربما السبب كان نتيجة سنوات المجاعة التي مرت بها المانيا أثناء الحرب العالمية الثانية، وعانى منها الشعب الألماني بما فيهم أبي البالغ من العمر حينها عشرة سنوات، وخروجه هو وأخيه الأصغر فقط. (فالأخ الأوسط لزم الفراش طيلة الوقت نتيجة لغم أرضي أنفجر فيه، مما أدى الي بتر يده، وبالكاد قدمه) الي الغابة باحثين اليوم كله تحت أوراق الأشجار المتساقطة والمتكدسة عن قطعة واحدة من الفقاع على الأقل، حتى يرجعوا مسرورين الي امهم وهم يتدافعون نحو الباب، كل واحداً منهم يريد أن يثبت لأمه بأنه البطل المحظوظ الذي حصل على الكنز، وينال الجائزة. عبارة عن صحن كبير مما يسمى " شوربة الفقاع". لأنها ببساطة لا تمت الي الشوربة باي صلة...إلا في الماء الذي غرقت فيه حبة الفقاع.
رافق الرجال الثلاثة أبي الي حجرة المكتب، وبداعي من الفضول ربما، أو الخوف من المجهول كنت خامسهم، وبينما هم يتجولون بأنظارهم في أرجاء المكتب، ويتحسسون بعض الأركان، ويتحرشون منتهكين بعض الأوراق المحتجبة داخل ملفات، والشاهد الوحيد كان...الصمت. ذهبت أنا الي أمي لأجيبها عن الأسئلة التي من المؤكد انها تعرف اجابتها مسبقا، وتتمنى عدم تصديقها حتى لا يهزمها خوفها. صاحت بي وبلهجتها "الشرقاوية" التي لم تنساها أبدا مثلما نست أو تناست الكثير الكثير من الأحداث...اقفل الباب، فالبيوت تشرف علينا، ولها مئة عين، وان استعصت عليها سرقة النظر، فثق بأنهم سيستعملون المنظار...وهذا بالضبط ما يفعلونه. أمي لم تنال من التعليم نصيبا، حتى وان حاولت متأخراً اللحاق بصفوف محو الأمية، الا انها لم تفلح فالقطار يبدو انه قد فات، ولكن هذا لم يمنعها أن تتحدث الإنجليزية...أي نعم بركاكة ولكنها تبلغ الهدف عندما تريد. لم أرى أمي يوماً في حياتي ولا يوجد بصحبتها جهاز "راديو ومسجل “، فان لم تكن تستمع الي نشرات إذاعة " بي بي سي “، فهي تدندن بصوت لا يخرج عن نطاق الهمس مع أشرطة كاسيت لام كلثوم أو وردة الجزائرية...نهارا، أما في الليل فالمساحة متاحة كلها للمطربة الشعبية " الفونشة " فمعها ينتقل الهمس الي صيحات متقطعة، وهزهزة بالأيادي فقط. فأنا لم أراها ولو لمرة واحدة تهزهز وسطها أو مؤخرتها.ربما لم تكن بارعة بالرقص قدر براعتها بالطبخ ، وربما لهذا السبب يرفع كان صحن طعام أبي يرفع دائما من أمامه فارغاً، حتى انه أصدر فرمان بأن من يترك بعضاً من الطعام في صحنه يلحقه الخزي والعار. أمي كانت ترتدي غالباً وتقريباً " ردي " معلقة على صدرها ولا تفارقها قلادة تربع في منتصفها " حجر الكهرمان " تلقته كتذكار من العائلة في المانيا، والحقيقة كلاهما لم يتلاءم مع بعضهما البعض ...على الأقل في نظري، ولكنها وقد أصرت، وبدون أن تدري على ترابط تاريخين متناقضين. أمي ممتلئة الجسم بعد الأربعين، هي مصرة بأنها أصغر بحسب الأوراق الرسمية، استنادا الي عدم التسجيل بالسجل المدني، أيضاً تقديرات أبي الحسابية والمبرهنة تاريخيا، فجدتي كانت تقول بأنها ولدت أمي في عام " هربة الاتريكات"، أي قطع التيار الكهربائي عند قصف الحلفاء لمدينة بنغازي حوالي العام 1940 يقول ابي اذ هي أصغر بأربعة سنوات عن السجلات الرسمية، وهذا ما تحاول أمي طيلة الوقت التشديد عليه. أمي غير رياضية. قصيرة قصر فاحش، وجهها مستدير يتوسطه أنف أفطس، وخربشة اصطلح على أنه وشم امتد ما بين الشفة السفلى والذقن، وعينان سوداوان وداعتان. وكان يخيل الي أنها تعامل جسمها ككائن غريب يحيط بها، كما لو كانت عالقة وسط جزيرة صحراوية نائية. أغلب الأحيان خجولة ومذعنة، لكن حين تغضب تصبح شرسة وعصبية. بشرتها السمراء اكتسبتها بفعل تدجين بين أصولها الزنجية العربية المختلطة. منذ وفاة أخيها الوحيد بحادث سير وهي تعيش حالة من الوسواس الذي يدفعها الي محاربة الموت بأقصى قوة من حب الحياة...يتبع






 [H1]


 [H2]