الخميس، 8 نوفمبر 2018

اوراق سفر...دراويش شنايدي

نزلت من القطار، إلى رصيف المحطة، وكانوا في الانتظار رجلان و امرأة...او ربما، ثلاثة رجال، فلولا غطاء الراس الذي أخفت تحته بعناية خصلات الشعر، مثلما أخفت كل الثنايا، والبروز، في تضاريسها...فقط سهوب ممتدة لا حياة فيها، بلا هضاب، وبلا مرتفعات تختفي ورائها الشمس لاختلط علي الامر ، وحسبتها ذكر. لم أسهب في الحديث، متى ركبت السيارة، فقط بعض كلمات تقتضيها المجاملة حتى تمكنني أن اندس في المقعد الخلفي،انزوي ارتاح واريح لمدة ساعة من الزمن، خاصة وقد انهكني السفر بطول الطريق خلال كل الليل، أمنع النوم عن عيناي، هذا دأبي من سنيين، أرفض أن أنام أمام الجموع، فالنوم وسط الكل هو اعتراف مني صريح أحاول جاهداً أن أخفيه.

وصلنا القصر في شنايدي، القابع وحيد في سهل اختفت حدوده بعد أن مُحيت بأبيض الجليد، كل ما بقى من معالمه أشجار تعرت هي الوحيدة بدون خجل، وسط كل هذا التهذيب.

الاسطورة تقول بأن مالك القصر من مائة سنة في أحد غرفه شنق نفسه، وانتحر، فقد ماتت جميع اسماكه القابعة في بِرك الماء حول البناء. هناك من يقول بأن أحدهم نتيجة نزاع وضع السم ، انتهى السمك، و عمر سيد القصر انتهى.

صمت يعم المكان، قادني سيدي عمر إلى غرفة في آخر الفناء وقال لي تفضل ادخل يا مولاي هذا غرفة كبار الضيوف امثال الشيوخ، هي لك. كانت الحجرة مليئة بالاسرة الفارغة، وعلى جدرانها عُلقت آيات قرآنية. ينتابني فضول للسؤال يدفعني إليه شعور بالريبة و الشك. لربما هذه الغرفة التي قبض فيها عزرائيل روح صاحب الأسماك.

دُعيت للغذاء، أو شبيه الغذاء، مع شيخ المجموعة ، وحاشيته و أربعة من النساء هن زوجاته اكبرهن بوسنية، وأصغرهن نمساوية، يبدو أن الشيخ أحمد جمع مُلك ال هابسبورغ من اطرافه.هن جميلات ولكنهن صامتات، أن تحدثن كلامهن همس، وأن سكتن يطول السكوت حتى تحسبه من الامس.جلستا متقابلتان ، شاهقتي البياض كاللبن الصافي شفتاهما رقيقتان، كلتاهما احتشدتا في عيناها سماوات صغيرة، إلا أن واحدة منهن، كلما ابتسمت ادمعت.

باختصار المكان كله في احتضار، إلا عطر يسكن الزوايا مُحتشم. تجولت في المكتبة، وكتبها المستلقية على رفوف دافئة متراصة وكأنها في حلقة ذكر من فيها يتغزل بالحبيب مع رقص الدفوف ، بينما أنا اخرج إلى الفضاء اغازل بعضاً من الغصون المتعراة ببهاء من غطاء بين صفوف الشجر، فلا ينتابني إلا زكام من هذا التحرش، وتأتي صفية التي استقبلتني بالمحطة ببعض الدواء...خذه سيساعدك على النوم، هو منقوع أعشاب الربيع المجمعة من الحقول المحيطة بالقصر: قائلة.
أتمنى ان لا تكون قد تلوثت بالسم...اُجيب.

مع المساء في ثلاثة حلقات اجتمعوا، الخارجية للنساء، تتلوها اخرى للرجال وما بينهما حلقة وحيدة منفردة للشيخ احمد هو وكيل الطريقة البرهانية السودانية في المانيا . كان لا بالطويل ،ولا بالقصير، ولا بالعريض، ولا بالمحصور الكتفين، يرتدي عباءة موشاة بخيوط من الذهب، كأنه ملك من اعماق الماضي انبعث حاملاً خطاياه و مهابته بدأ شعره الذي استرسل من عمامته باهتًا بلون القش، و بشرته شديدة الشحوب، مشدودة على عظام الوجه، وعيون ميتة بدون انفعال، يتكلم دون مودة، ويسلم أيضًا دون مودة، مجرد تلامس لأكف غريبة. اله أسطوري صامت و متسلط و موجود. هل يستحق كل هذه القدسية، ام أنهم كانوا في حاجة إلى قديس.الحكاية تبدو ناقصة. كانوا كبجع أبيض يدورون دورات لا تهدأ، يتسارع بتسارع الانحناء على إيقاع موزون بكلمة الله الله تتحول تدريجيا إلى حشرجة تشبه زفرة الموت، يبدو وكأنها ترسلهم إلى برزخ بين عالمين مختلفين .

دخلت غرفتي لأنام في الليل ليس هناك إلا اصوات الضفادع و جنادب الليل، وهمهمات الطيور، و مواء قطة غريبة في عالم غريب. عند الفجر افقت على صوت الاذان ، وكأن من أذن وقف امام باب الغرفة، يدق علي الباب، ينتظر جواب تأخر فينادي...الصلاة يا مولاي . هو لم يعلم بأن هذا الولي لا يصلي، وإن حدث و صلى ، يصلي بدون خشوع. الطقوس تقلقه، وتكبله، تمنعه من الانطلاق، تسد عليه المنافذ، والأبواب تقتله في الانغلاق. لا مفر ولا خيار في القرار، و قطرات الماء المثلج في الباحة بالانتظار.من حضر افسح لي الطريق إلى داخل المسجد حيث المحراب، بحث بعيناي عن الشيخ أحمد بندوف. لم أجده. لم أسأل، وأنا أفتقد غيابه. جاهدت في الخشوع لأجلهم وحاولت أن انطق ايات بلسان عربي فصيح ، كي يعمهم الفرح، ولا يهمهم الكدر، بأن صلاتهم كان أدائها صحيح.

قضيت طوال اليوم وأنا اتعرف على نشاطهم، وجوانب واضحة من حياتهم ، مطبوعاتهم ، نشراتهم ، صورهم ، و إذا هناك ما خفي فلم اطلع عليه.

في صباح اليوم التالي، غادرت مع صفية المكان الذي لا عنوان له إلا بيت شنايدي. وبينما تبتعد السيارة القيت نظرة إلى الوراء يدفعني سؤال الحياري مثلي هل هم في الزمن الخطأ، والمكان الخطأ...تُجيبني صفية....نعم. تضمني بحرارة، وتودعني بقبلة اخوية، اركب عربة القطار، الذي يستعد للمغادرة بينما أنا الوح لها بيدي من النافذة حتى تغيب، وأغيب أنا، تفصل بيننا السماء ، لا أدري فرح بالخلاص، أما بالذنب حزين....لا اجابة واضحة . كل ما هو واضح عندي حد اليقين مسالك الله غريبة ....و صفية جميلة كالنساء، لها حنين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق